أحمد السعداوي (أبوظبي)

يحتل الموروث الشعبي السوداني بتنوعه وغزارة مفرداته أهمية خاصة ضمن الأجنحة التراثية العالمية، التي تزين فعاليات مهرجان الشيخ زايد التراثي بمنطقة الوثبة والتي انطلقت في الثلاثين من نوفمبر الماضي، وتستمر حتى السادس والعشرين من الشهر الجاري، وسط حضور جماهيري لافت أكد نجاح إدارة المهرجان في تقديم نماذج الموروث المحلي والعالمي في إطار من الجاذبية والترفيه، جعلت من المهرجان أيقونة ثقافية عالمية تنطلق من أرض الإمارات ويترقبها عشاق التراث في مثل هذه الأوقات من كل عام، لمتابعة لآلئ الحرف والمشغولات التراثية التي يقدمها خبراء تراثيون واختصاصيون جاءوا من بلدان عديدة ليشاركوا أبناء الإمارات عرسهم التراثي الذي يقام هذا العام تحت شعار «الإمارات ملتقى الحضارات».
في الجناح السوداني، يطالع الزائر نماذج عديدة من المصنوعات الجلدية والسعفيات والفنون الشعبية وأنماط الحياة التقليدية التي تعكس تنوعاً كبيراً للموروث المحلي السوداني النابع من اتساع المساحة الجغرافية للسودان التي قاربت مليوني كيلومتر مربع، لتحتل المرتبة السادسة عشرة على العالم من حيث المساحة والثالثة على الدول العربية بعد الجزائر والسعودية، فتنوعت بيئات السودان بين زراعية وبحرية وحضرية، ما شكل فسيفساء رائعة من الحرف اليدوية المتوارثة والنماذج التراثية التي أبهرت جمهور المهرجان.

أقواس وسهام
يقول عبدالحميد جار النبي، المتخصص في المشغولات اليدوية من الأخشاب المستخرجة من نباتات البامبو وأشجار الأبانوس، مثل العصيّ، والسبح، والحُلي النسائية التقليدية، وكذا الأقواس و«النشابات» ويقصد بها السهام، التي كانت تستخدم في الحروب والمعارك قديماً، والتي تستعمل الآن في أغراض الزينة والديكور لمنح البيوت العصرية لمسة تراثية.
وأوضح جار النبي أنه كسائر الحرفيين التراثيين تعلم هذه الحرف بالوراثة من خلال الأسرة والأقارب، ويفخر بتقديمها عبر المشاركة في فعاليات ومهرجانات تراثية عديدة على مدار العام، سواء داخل السودان أو خارجه، لافتاً إلى أن أكثر ما يقبل عليه جمهور المهرجان، هو العصيّ باعتبارها من أبرز رموز الموروث المحلي السوداني وتعتبر مكملة لأناقة الرجل وهيبته، وهي في ذلك تتشابه مع الموروث المحلي لعديد من الدول العربية، حيث جرى استخدام العصي بأشكال وأسماء مختلفة، وإن كانت تتشابه جميعاً في الهدف منها وهي إكمال زينة الرجل التقليدية، كما تستعمل في ممارسة بعض الأهازيج والفنون الشعبية، وكذا الاستخدام في الحياة اليومية، خاصة لسكان المناطق البدوية والرعوية الزراعية.
ولفت إلى أن مراحل صناعة العصيّ تبدأ من الخشب الخام، ثم تقطيعها بالمنشار والتسوية بالمخرطة اليدوية قبل التنعيم والطلاء بمواد حافظة تعطيها أناقة وبريقاً، حيث يستخدم خشب الأبانوس بشكل رئيس في صناعة العصي كونه يتسم بالقوة والجمال.

صناعة الجلود
عبد المنعم الميرغني، الخبير في المصنوعات الجلدية، والذي جمع بين العلم والحرفة اليدوية، كونه حاصلاً على بكالوريوس في هندسة الجلود من جامعة السودان، استطاع تطويع علمه لخدمة المشغولات الجلدية التراثية، ليعطيها مزيداً من الجمال وروح العصر، فتقبل عليها الأجيال الجديدة وأبناء الجنسيات المختلفة لاستخدامها في الحياة اليومية، ومنها الحقائب النسائية، الأحذية، حافظات الأجهزة اللوحية، والمشغولات الجلدية لأغراض الزينة، خاصة المصنوعة من جلود التماسيح والثعابين.
وذكر الميرغني، أن كل هذه الجلود لحيوانات منتشرة في البيئات السودانية مثل الإبل، الأبقار، التماسيح، الثعابين، الأرانب. مبيناً أن أكثر الإقبال يكون على منتجات جلود البقر لما تتميز به من متانة وأسعار مناسبة، كما يمكن إدخالها في صناعة منتجات عديدة، كما تتميز جلود الثعابين بجمال أخّاذ ولكنها مرتفعة الثمن مقارنة بباقي أنواع الجلود، وبالتالي لا يقبل على شراء منتجاتها إلا أقلية من الجمهور.
وبين أن الجلود تمر بمراحل عدة حتى تصل للشكل النهائي بداية من الدباغة، ثم اختيار الجلد المناسب لكل منها ثم بدء التنفيذ، مشيراً إلى أن «المركوب» السوداني المصنوع من جلد البقر عليه إقبال كبير نظراً لارتباطه بشكل وثيق بالموروث المحلي السوداني ومتانة صنعه، فضلاً عن رخص سعره الذي يتراوح بين 80 و120 درهماً، وهو سعر غير مكلف بالمرة بالنسبة للمركوب الذي لا يزال مستخدماً في الحياة اليومية لكثير من أهالي السودان ويقبل كثير من السائحين على اقتنائه.
وقال الميرغني، إنه يشارك في مهرجان الشيخ زايد التراثي للمرة الأولى، وأبهره حسن تنظيم الفعاليات ما أتاح الفرصة لأعداد كبيرة من الجمهور زيارة الأجنحة المتنوعة وسط أجواء ترحيبية ونظام بديع يجعلنا نقدم الشكر لأشقائنا في الإمارات على حسن الضيافة والمستوى الراقي في التنظيم، متمنياً أن يشارك في الدورات القادمة من المهرجان بصحبة زملائه من المتخصصين في التراث السوداني ليعرضوا هذا التراث على العالم.

«مندولة» و«مصلاية»
ماريا التيجاني، متخصصة في صناعة السعفيات، قالت إنها عقب حصولها على ماجستير في اللغة العربية قبل سنوات عدة، اتجهت لتعلم هذه الحرفة وأخذت تمارسها بحب، موضحة أن السعفيات تتنوع بين القفف «جمع قفة»، وهي بمثابة وعاء من الخوص لنقل المتاع والأشياء الشخصية، و«البروش» التي تفرش في أرضيات المنازل، والمصلايات «جمع مصلاية» المستخدمة لتأدية الصلاة، و«المندولات» جمع «مندولة» وهي وعاء مصنوع من السعف يتم وضع أنواع مختلفة من الطعام بداخله، وفي العصر الحالي تقوم أم العروسة بإرسال عدد من المندولات محملة بأطايب الطعام السوداني التقليدي إلى ابنتها في يوم الزفاف، كما تستخدم المندولات أيضاً في تقديم الأطعمة الشعبية في المناسبات المختلفة في المجتمع السوداني.


وتلفت التيجاني إلى أن هذه المنتجات السعفية تعتمد في الأساس على أشجار النخيل والدوم المنتشرة في البيئة الإماراتية، وأكثر الأنواع التي لاتزال تستخدم إلى الآن في السودان، هي البروش، وعدم الاعتماد على الأبسطة المستوردة، كما أن القفة لاتزال تستخدم لأغراض التسوق، وهناك ما يعرف بـ«الكاب» الذي يتم توزيعه على الصغار بعد تعبئته بالحلوى في المناسبات المختلفة.
أما «الحبابة» فهي نوعان، المراوح المستطيلة الشكل للتهوية وتلطيف الجو، والدائرية وتستخدم لإشعال الحطب والنيران سواء للتدفئة أو طهي الطعام في الأماكن الخلوية.

مشغولات صدفية
ذكر بدر الدين بشير، المتخصص في المشغولات الصدفية، أنه يقدم خلال فعاليات مهرجان الشيخ زايد التراثي أعمال التزيين بالصدف للأوعية الخاصة بتقديم الحلوى والمكسرات وطاولات القهوة السودانية، وكذا أنواع من الحلي النسائية، مبيناً أن صواني تقديم الحلوى والمكسرات المطعمة بالصدف تعتبر من أكثر المنتجات التي يقبل عليها الجمهور لما تتميز به من جمال لافت وارتباط مباشر بالبيئة البحرية في السودان حيث يستخرج هذا الصدف من شواطئ مدينة بورتسودان الواقعة شرق السودان في المنطقة المطلة على البحر الأحمر.


وأشاد بشير بالتطور المتلاحق الذي يشهده المهرجان عاماً بعد عام، ما يعكس الاهتمام البالغ للقائمين عليه في إبراز المفردات التراثية الإماراتية ونماذج تراثية من أنحاء العالم، ما يزيد من التبادل الثقافي والحضاري بين شعوب العالم برعاية إماراتية خالصة، وهو ما تشهد به منطقة الأحياء التراثية العالمية التي استضافت العديد من البلدان من مختلف القارات لتقديم موروثاتها وتبادل الخبرات، وإقامة علاقات تواصل إنساني دائم بين العارضين والمتخصصين التراثيين، وهو الغرض الرئيس من وراء مثل هذه الفعاليات العالمية التي تضم أفراداً وثقافات مختلفة، في ظل التواصل الإنساني والاحترام المتبادل لما يقدمه الجميع من موروث محلي يعبر عن دولهم.